أمنيه رشدى
Sexaoy Princess
عضو
كانت ميسون تدرك ذلك جيدا ..
حتى من قبل ان تشرق شمس ذلك الصباح و يستيقظ النصف النائم من الارض لينام النصف الذي كان صاحيا ..
و لذا كانت آخر من تهيأ فيمن حولها ..
و لم يلتفت الكل الى هذا و هم يتسارعون خارج المنزل لذا الفت نفسها وحيدة في المنزل الكبير .. قد يمكنها ان تتأخر لكن ليس للأبد ..
و ترقرقت في العينين دمعة مسحتها بعنف و نفضت رأسها بقوة تاركة شعرها القصير الناعم الأشقر يرتطم بجانبي وجهها كسياط دقيقة مؤلمة .. و رفعت بكبرياء رأسها مرسلة نظرة طويلة الى ما وراء الافق الذي يسده سطح البحر ثم اتجهت الى مرآتها و نظرت الى نفسها فترة قبل ان تقوم بعمل المرأة الأبدي في تزيين نفسها و لكنها هذه المرة لم تبالغ و ان لم تهمل الزينة ..
و ارتدت ثوبا ورديا انيقا و نظرت لنفسها في المرآة الكبيرة و لم يعجبها ما ترى .. كانت تبدو اجمل بكثير مما تريد .. لبست فوق عينيها الخضراوان نظارة سوداء لكن جمالها لم يقل .. القتها على المرآة ثم نزلت الى الصالة و منها الى الحديقة .. و اتجهت نحو سيارة العائلة المنتظرة بعد ان سبقها الكل و بقيت وحدها .. تدرك جيدا ان لا مناص من الذهاب .. فالحفل يبدأ مبكرا .. حفل كان بنظرها اشبه بحفل قبيلة متوحشة ظفرت بسائح احمق في غابة افريقة و وضعوه للعشاء .. لكنها لن تكون العشاء .. لقد اراد هو لها ان تبكي ..
لا تنكر انه نجح عندما خطب غبرها بعد قصة حب طويلة .. لكنها لم تبك طويلا.. لقد داست قبضة العقل على جراح القلب و ملأتها ملحا و كتمت المها بقوة .. و تقاليد العائلة تجبرها ان تذهب و تبارك للعروسين .. تبارك للقاتل ظفره بروح الضحية .. و ان تبتسم .. لا بد لها ان تبتسم .. هي التقاليد القاسية .. و وصلت الى الحفل بثوبها الأنيق و دخلت القاعة التي تعج بالبشر و هي تشعر كان دلو ماء بارد ينسكب عليها فتشعر و كانها تهوي من أعلى لكنها تماسكت و تقدمت راسمة ابتسامة متوسطة زادتها بهاء .. لم تكن تغتر بعبارات المجاملة فكثيرا ما سمعتها .. و لم تكترث بنظرات الشبان فهي تعرف كيف تجتازها ..
لكن كل هذا يزيدها ثقة بنفسها كالعادة ..
و وقع نظرها على العروسين .. حاتم و منيرة .. و شعرت في البداية بغيرة مؤلمة .. لكن و للحظة لمحت نظرة حاتم لها .. نظرة منبهرة من جهة و من جهة اخرى نظرة استفزازية .. لكنها ابتسمت و سارت مع المهنئين و حافظت على هدوئها الظاهري حتى و هي تصافح حاتم و تقبل منيرة مهنئة كلاهما بعبارتها التي اشتهرت بجمال اختيارها و عادت لتجلس على طاولة من الطاولات مع العائلة و تتابع المغني و الفرقة الموسيقية .. كانت تحس بحرارة نظرات حاتم لها و كأنه يريد لها ان تغتاظ ..
فمرة يعرض عنها بالمرة و مرة يراقبها خلسة و هي تدرك هذا جيدا و تتجاهله كليا حسبما تتظاهر .. تضحك مع ابنة عمها و تتصرف بمرح و بساطة .. يعلم الكل قصتها مع حاتم و كيف تركها و خطب منيرة لأجل إغاظتها بعدما اختلفا حول مسألة العرس و اصر كل منهما على رأيه فأراد لها ان تركع تحت قدميه و تجري وراءه معتذرة فهجرها و لكتها لم تفعل .. صادق الفتيات على مرأى منها فزادت بعدا ..
فلجأ الى الحل الأخير .. خطبة غيرها .. لكنها ابتعدت اكثر ..
كان يعلم انها اجمل فتيات العائلة و ربما الأجمل في المدينة كلها .. لكنه العناد .. و هي لم تفعل مثله لحسن الحظ .. لم تربط نفسها بمن لا تريد لمجرد اغاظة الطرف الآخر .. نعم .. هي تود الانتقام لكن دون ان تحرق نفسها .. دون أن ينالها ما حذر منه المثل الصيني القائل " اذا اردت الإنتقام فاحفر قبرين معا ".. تريد قبرا واحد فقط لا يحمل شاهدة اسمها و لا يضم ترابه جسمها .. فكرة غير كاملة تتكون .. لكنها بحاجة الى وقت لصقلها .. و نظرت الى الفرقة التي تعزف لحنا فلكلوريا جميلا اهتز له قلبها فراحت تتفاعل معه بحركات بسيطة انسيابية نصف وقورة فلم تكن ميسون من المندفعات وراء كل نسمة هواء ..
لكن لها حسا مرهفا و نفسا ذواقة و الادهى انها و حتى و هي مستمتعة بالموسيقى الرائعة كانت تكون في ذهنها خطة شيطانية للنيل من منير .. ستجعله يدمر نفسه بنفسه في حين تنظر هي اليه من بعيد .. و تشمت .. فقط تشمت .. كانت الخطوة الأولى تتطلب بعض التضحية .. و نظرت بطرف عينها الى احد الراقصين في الحفل و هي تحمل كأس شراب التوت .. كانت حركاته الرشيقة توحي لها بالكثير .. و سألت نفسها : ما هي اهم صفات الجمل؟ هناك صفتان .. شدة الصبر و عنف الانتقام . . و نهضت ميسون لتبدأ بتنفيذ خطتها .
كان الحفل صاخبا و الجموع تختلط ببعضها بشكل شبه عشوائي و هو أمر طبيعي في حفلات الخطوبة و الأعراس ..
و سارت ميسون بشكل هادئ صوب المحتفلين حاملة كأس شراب التوت الأحمر .. و تألقت بعينيها تلك النظرة العابثة الشيطانية التي اشتهرت بها اذا ما كانت تريد شرا بأحد و لحسن حظها لم يلحظها احد ممن حولها ..
و ما ان مرت بجانب ذلك المسكين الذي اختارته ضحية لها حتى حدث ما توقعته .. فمع الحركة السريعة للمحتفلين ارتطمت يده بكأس الشراب فطار و انسكب على ثلاثة محتفلين هي احدهم .. و سال شراب التوت على فستانها كما لو انه نزف دماء غزير ..
و بقيت هي صامتة واقفة في حين كان الارتباك هائلا لذلك المسكين الذي راح يعتذر بشدة و هي صامتة تنظر اليه نظرة خاوية اربكته اكثر .. و لا احد يلومه ..
ماذا لو انك اتلفت فستان سهرة لفتاة شديدة الجمال و وقفت هي تنظر اليك بعينيها الساحرتين نظرة لا تعرف لها اسما .. غضب؟ ملامة؟ دهشة؟ سخرية؟ تساؤل ؟ حيرة؟ استغرب؟ شفقة ؟ استطلاع؟..
لا تدري ..
و هذا ما حصل مع المسكين و مما زاد ارتباكه انها تابعت سيرها و كأن امرا لم يحدث و اختفت وراء حاجز الديكور التابع للقاعة .. و بدأ الارتباك الحاصل يتلاشى تدريجيا و بسرعة عادت الحفلة لمجراها .. كانت تدرك مدى تحفز حاتم و دهشته و هو يشاهد ما يجري ..
اما منيرة فقد ظنت ان ميسون ستحاول احداث ضجة تفسد الحفل .. لكن امرا من هذا لم يحدث .. دقائق قليلة مرت لتعود ميسون بنفس الخطوات الهادئة الى طاولتها و قد اختفت البقعة من على فستانها بشكل مدهش .. هذه البقع عادة لا تزول بسهولة حتى مع الغسيل المكثف .. لكن ميسون لم تعلق و لم تجب على أي سؤال بل جلست في مكانها الأول و صبت لنفسها كأسا آخر راحت تتأمله دون أن تشرب منه قطرة ..
و في حقيقة الأمر كانت تراقب عبر انعكاساته ضحيتها الأولى في رحلة الثأر و تراقب بزاوية اخرى هدفها .. حاتم و منيرة ..
ضحيتها الاولى اسمه سعيد .. طالب في كلية التجارة .. اعزب هادئ الطباع مؤدب جدا .. هدف مناسب كطلقة اولى في صدر حاتم ..
من اهم صفات الطلقة ان تكون صماء عمياء خرساء لا تفكر و الا فهي لا تصلح طلقة تذهب حيث يريد لها مرسلها .. سعيد يصلح بقليل من التحوير و التحويل ليكون نوعا من الطلقات النسائية الصنع .. لقد وصفها والدها يوما بذات بالقلب الماسي ..
و من يومها يعلمون هذا عنها .. ذات القلب الماسي الرائع ..
و ابتسمت و خاطرة تمر سريعة اما ناظريها .. ماسي ؟ لا بأس ..
و انتهت الوصلة الموسيقية و تقدم سعيد من ميسون و هو مرتبك و قدم لها اعتذارا مفكك الكلمات ..
كان من اكثر الشباب خجلا و ترددا تجاه الفتيات .. و لم ترد ميسون بل نظرت في عينيه تلك النظرة الخاوية المحيرة و هو يتحدث مما اضاع عليه حديثه و جعله قمة في الحيرة و الارتباك و تولى والدها الرد بكلمات مهذبة على الشاب الذي ابتعد متعثر الخطوات و العرق يسيل و يغرق وجهه رغم اعتدال الجو .. و سألها والدها : ما الأمر يا ميسون ؟
قالت ببساطة طفولية : لا ادري .. ماذا يريد سعيد ؟ لم افهم منه شيئا .
قال والدها : معقول ؟ لقد جاء يعتذر عن اتلاف فستانك؟
قالت و هي تتفقد فستانها بحركة مسرحية : اتلفه ؟ كيف و متى؟ ها هو جميل انيق نظيف .
نظر اليها والدها بشك لكنها رسمت البراءة فوق وجهها فهز رأسة بيأس و لم يحاول مرة اخرى تحري الأمر .. اما هي فقد تابعت عن طريق انعكاس الظل حركات سعيد المرتبكة و هو يمسح عرقه تارة و ينظر نحو طاولة الأسرة تارة اخرى مع بداية فقرة جديدة من العزف الموسيقي ..
و لا يلومه احد بذها .. لقد انسكب الشراب على الفستان و لوثه فكيف زال هكذا فجأة ؟ و ما يربكه فعلا هو تلك النظرة الحجرية في عيون ميسون القاتلة .. لو كانت نظرة غضب او سخط او ملامة لوجد لنفسه ركيزة ليتصرف ..
و في الطرف الآخر كان حاتم و منيرة فقد كان حاتم مندهشا فعلا .. لقد رأى بنفسه الشراب يلوث ثوب ميسون و ظن انها ستغادر الحفل ساخطة او تفرغ غضبها بسعيد .. و ادهشته اكثر تلك النظرة و ذاك الهدوء الغامض لها ثم اذهله اختفاء البقعة عن الثوب .. كيف ؟ لا يدري ..
و تابعت ميسون حركة المحتفلين بنظرات اعجاب و في مرحلة من حركة رأسها التقت عيناه بعيني حاتم فحافظت على ابتسامتها متألقة و بالمصادفة انعكس الضوء على عينيها فبدت في نظر الأخير كأميرات الأساطير بجمالها ..
و شعر برجفة باردة لدى التقاء عيناهما و لكنها تابعت نظرها نحو المحتفلين مبتعدة بعينيها عنه .. و في ثنايا عقله تردد بيت الشعر القائل :
لم تكن تدرك حقيقة ما يعتمل في نفس حاتم الذي صار مشتتا بينها و بين خطيبته منيرة ..
لكن ميسون كانت تدرك جيدا ما تفعل ..
ستكون اللمسة الأخيرة عندما يغادر الضيوف و يبقى المقربون من العريس وفق التقاليد العائلية المتبعة ..
يا للشيطان ..
من اين اتتها كل تلك الخطط الجهنمية ؟
لا تدري .. ربما هي رغبتها العنيفة في الانتقام ..
ربما .. المهم انها ستحقق ما تريد و ليكن ما يكون ..
و ابتسمت للعروس ابتسامة صافية دون ان تطيل النظر اليها ..
ستكون منيرة ضحية لا ذنب لها في هذا الأمر .. لكن ما باليد حيلة .. و لم تقم ميسون بأي شيء حتى بدأ المدعوون يغادرون و وقفت تودعهم مع المودعين .. و جاء دور سعيد للمغادرة فقال لها و هو يصافحها مودعا : اكرر اعتذاري لك يا ميسون .. لم اكن اقصد .
قالت له بهدوء و بصوتها الرقيق : لا بأس .. لم يحدث ما يسيء . قال :اعتقد انك .. و قطع عبارته و هو ينظر الى مكان البقعة التي لم يعد لها وجود فقالت ميسون بسرعة : لا تشغل بالك بالأمر .. و ابتسمت له ابتسامة رقيقة اذهلته عن مسألة البقعة الغائبة حتى انه شد على يدها بطريقة لا شعورية و هو يحدق في عينيها الصافيتان
و من ذا الذي يلومه ؟
و هل يمكن لشاب متزوجا كان او اعزب ان يصمد امام نظرة ميسون ؟
و ابتسمت ميسون مرة اخرى و هي تسحب يدها من يده برفق .. فعاد يلقى بعبارات اعتذار مبعثرة قبل ان ينسحب متعثرا ..
وهناك كان حاتم يراقب الموقف بمشاعر مرتبكة .. لم يكن يعرف ما يقوله الاثنان حيث ان وجه ميسون باتجاهه كونها مع المودعين في حين كان ظهر سعيد نحوه كونه مغادرا و من زاوية النظر كان يري ابتسامة ميسون و يرى كيف شد سعيد على يدها .. و هذا ما رمت اليه ميسون ..
لقد اصاب سهمها هدفه و الطريدة تغرق بدوامة سوداء جعلت العرق يسيل على جبهتها .. كان حاتم مرتبكا من حقيقة مشاعره ..
هل عندما رأى ان ميسون طارت من بين يديه فعلا عاوده حبها و غيرته ام انه كان يريد ان تتعذب دون ان تجد من يهتم بها؟ لا يدري .. لكنه يدري انه لن يقف ساكنا ..ابدا ..
و بقي في نهاية الحفل اقارب العروس و العريس .. حيث عادة يتخذ الحفل طابع الخصوصية و يكون اكثر حرية من البداية حيث الغرباء عن العائلة ..
كانت الساعة نحو العاشرة و حفل كهذا يستمر عادة حتى الثالثة صباحا او حتى اليوم التالي بأغلب الأحيان .. كانت ميسون تعرف ان انتقامها قاب قوسين او ادنى ..
مسكينة منيرة ..
لا ذنب لها لكي تشارك حازم مصيره الأسود ..
لكن .. لا مجال للتراجع و ستجد منيرة عريسا جديدا لها بلا شك .. و انطلقت ميسون ترقص بجنون على انغام الموسيقى الصاخبة كما لو انها ساحرة تضع اللمسات الأخيرة على تعويذة شيطانية و العجيب ان جمالها تألق بشدة وسط الحفل و الأضواء بشكل مبهر و كانت الدنيا تدور من حولها بسرعة دون ان تشعر بأنها فقدت التوازن ..
كل الصبايا من حولها كن يتحركن بحركات متناسقة و الشبان يرقصون بنفس الحماس و هي تنتقل هنا و هناك ..
كانت التقاليد ان ينزل العريس و يراقص العروس في ساحة الحفلة .. كان حازم منبهرا بلا جدال بميسون و قد استيقظ في قلبه الحب القديم .. و راح يراقص منيرة و عيناه لا تكادان تفارقان ميسون التي تكاد تطير من خفة حركاتها و شعرها الذهبي القصير يرسم من حول وجهها الجميل الأبيض حقلا قمح متألق و عيناها الخضراوان تعكسان الأضواء بتألق مدهش ..
عشر دقائق كانت قبل منتصف الليل عندما كانت ميسون تبدأ رقصتها السريعة المبهرة و التي شدت انظار الكل و خاصة حازم الذي طالما انبهر بتلك المرونة التي تتحرك بها ميسون في تلك الرقصة و التي تتفرد بها بليونة كاملة و كأنها من مطاط و ليس من لحم و ددمم ..
و فاض الكيل بمنيرة فتوقفت فجأة و صرخت بقوة : كفى .
توقف الكل دفعة واحدة مع صرختها ..
فصاحت من بين دموعها : اذا كنت لا تزال تحبها لماذا لا تذهب اليها ؟
ارتبك حازم و نظر الى ميسون التي وقفت هادئة تراقب الموقف و حالا توجهت الانظار نحوها لكنها لم تغير من هدوء منظرها كأنها تشاهد امرا في بلد آخر لا يعنيها .
و عادت منيرة تصرخ و هي تدفع حازم و تبكي بشدة : هيا .. اذهب اليها ايها النذل و لا تعد الي ابدا .. انا اكرهك .. اقسم اني اكرهك . و استدارت و انطلقت نحو امها و هي تغطي وجهها بكفيها و قد تبلل قفازا فستان العرس بدموعها ..
و حاول حازم الكلام لكن جفاف حلقه منعه من ان يتحدث الا بكلمة : ماذا ..؟ و نظر نحو ميسون التي استدارت و سارت بهدوء خارجة من القاعة وسط هدوء شامل عدا عن نشيج منيرة .. و حاول الاقتراب من منيرة لكنها تحولت اليه صارخة بصوت هادر : قلت لك اغرب عن وجهي .. اكرهك ..هيا اغرب و الحق بها قبل ان تبتعد.
و صعد الدم الى رأس حازم فانطلق يركض نحو باب القاعة و هو لا يكاد يرى امامه .. و شاهدها تسير على الرصيف المقابل و تلتفت نحوه ثم تختفي في الناصية المقابلة .. فاندفع بلا وعي ورائها .. و عندما دقت الساعة منتصف الليل دوت صرخة رهيبة صدمت آذان الكل مع صرير عجلات السيارة المسرعة التي ضربت حازم ..
و عندما وصلوا اليه كان ممددا على الأرض ينزف بشدة و قد تحطم عموده الفقري و ساقاه و ذراعة الأيسر و الدم يسيل من فمه و انفه بغزارة ..
لحظات و خرجت ميسون من القاعة ترتدي فستانها و قد ظهرت بقايا آثار البقعة عليه و ركضت باتجاه الحشد بهلع ..
و سألها ابوها بذهول : الم تخرجي قبل قليل؟ .. و كيف ظهرت هذه البقعة ؟ .. اين كنت ؟صاحت : و هل هذا وقته ؟ .. كنت في الحمام اغسل هذه البقعة اللعينة و امضيت ساعتين و نصف حتى كدت انظفها قبل ان اسمع الصوت . . هل تعتقد ان لدي فستانا آخر غيره ؟ انت نفسك من قام بتفصيله في باريس قبل شهرين .
و اندفعت تشق الحشد حتى وصلت الى حازم و نظرت بهلع الى دمه النازف قبل ان تهتف باسمه بلوعة .. و فتح الأخير عينيه و نظر اليها و هي تحدق به بجزع و توقفت عيناه على آثار البقعة الظاهرة لحظة قبل ان يغمض عينيه ..
و اثناء نقل حازم المشلول الى المستشفى بعد ان فر الجاني كان الكل يتساءل في سره ..اذا كانت هذه ميسون فمن هي الأخرى؟ و من اين لها بفستان يشبه فستانها الذي امضى الخياط ثلاثة اسابيع لكي يتمه ؟ و كيف عادت ميسون الى القاعة و قد توارت في المنعطف البعيد كما شاهد الكل ؟ لا احد يدري ، لكن ما لم يلاحظه احد هو ابتسامة ساخرة خفيفة رفت لجزء من الثانية على شفتي ميسون .. لقد نسوا ان فستانها ذو نظام مزدوج و يمكن ازالة او اضافة قطع اليه و ربطها بسوستات دقيقة و ابدال قطع مكان اخرى .. و هذا سر ارتفاع ثمنه .. و نسوا أن للقاعة باب خلفي .. اما ميسون فقد كانت تفكر بأمر آخر ..
ستطيل شعرها كما كانت تفعل قبل ان تعرف حازم .. و ستعود لتحلم بليالي الصيف الغريبة و تكتب بدفترها الاشعار ..
و تسهر طويلا و تطارد الفراشات في الحقول ..
و اغمضت عينيها بارتياح ..
لقد اتمت انتقامها المدمر ..
قالوا أنها ذات القلب الماسي الجميل ..
صدقوا ..
لكنهم نسوا ان الماس هو اصلب المعادن .
حتى من قبل ان تشرق شمس ذلك الصباح و يستيقظ النصف النائم من الارض لينام النصف الذي كان صاحيا ..
و لذا كانت آخر من تهيأ فيمن حولها ..
و لم يلتفت الكل الى هذا و هم يتسارعون خارج المنزل لذا الفت نفسها وحيدة في المنزل الكبير .. قد يمكنها ان تتأخر لكن ليس للأبد ..
و ترقرقت في العينين دمعة مسحتها بعنف و نفضت رأسها بقوة تاركة شعرها القصير الناعم الأشقر يرتطم بجانبي وجهها كسياط دقيقة مؤلمة .. و رفعت بكبرياء رأسها مرسلة نظرة طويلة الى ما وراء الافق الذي يسده سطح البحر ثم اتجهت الى مرآتها و نظرت الى نفسها فترة قبل ان تقوم بعمل المرأة الأبدي في تزيين نفسها و لكنها هذه المرة لم تبالغ و ان لم تهمل الزينة ..
و ارتدت ثوبا ورديا انيقا و نظرت لنفسها في المرآة الكبيرة و لم يعجبها ما ترى .. كانت تبدو اجمل بكثير مما تريد .. لبست فوق عينيها الخضراوان نظارة سوداء لكن جمالها لم يقل .. القتها على المرآة ثم نزلت الى الصالة و منها الى الحديقة .. و اتجهت نحو سيارة العائلة المنتظرة بعد ان سبقها الكل و بقيت وحدها .. تدرك جيدا ان لا مناص من الذهاب .. فالحفل يبدأ مبكرا .. حفل كان بنظرها اشبه بحفل قبيلة متوحشة ظفرت بسائح احمق في غابة افريقة و وضعوه للعشاء .. لكنها لن تكون العشاء .. لقد اراد هو لها ان تبكي ..
لا تنكر انه نجح عندما خطب غبرها بعد قصة حب طويلة .. لكنها لم تبك طويلا.. لقد داست قبضة العقل على جراح القلب و ملأتها ملحا و كتمت المها بقوة .. و تقاليد العائلة تجبرها ان تذهب و تبارك للعروسين .. تبارك للقاتل ظفره بروح الضحية .. و ان تبتسم .. لا بد لها ان تبتسم .. هي التقاليد القاسية .. و وصلت الى الحفل بثوبها الأنيق و دخلت القاعة التي تعج بالبشر و هي تشعر كان دلو ماء بارد ينسكب عليها فتشعر و كانها تهوي من أعلى لكنها تماسكت و تقدمت راسمة ابتسامة متوسطة زادتها بهاء .. لم تكن تغتر بعبارات المجاملة فكثيرا ما سمعتها .. و لم تكترث بنظرات الشبان فهي تعرف كيف تجتازها ..
لكن كل هذا يزيدها ثقة بنفسها كالعادة ..
و وقع نظرها على العروسين .. حاتم و منيرة .. و شعرت في البداية بغيرة مؤلمة .. لكن و للحظة لمحت نظرة حاتم لها .. نظرة منبهرة من جهة و من جهة اخرى نظرة استفزازية .. لكنها ابتسمت و سارت مع المهنئين و حافظت على هدوئها الظاهري حتى و هي تصافح حاتم و تقبل منيرة مهنئة كلاهما بعبارتها التي اشتهرت بجمال اختيارها و عادت لتجلس على طاولة من الطاولات مع العائلة و تتابع المغني و الفرقة الموسيقية .. كانت تحس بحرارة نظرات حاتم لها و كأنه يريد لها ان تغتاظ ..
فمرة يعرض عنها بالمرة و مرة يراقبها خلسة و هي تدرك هذا جيدا و تتجاهله كليا حسبما تتظاهر .. تضحك مع ابنة عمها و تتصرف بمرح و بساطة .. يعلم الكل قصتها مع حاتم و كيف تركها و خطب منيرة لأجل إغاظتها بعدما اختلفا حول مسألة العرس و اصر كل منهما على رأيه فأراد لها ان تركع تحت قدميه و تجري وراءه معتذرة فهجرها و لكتها لم تفعل .. صادق الفتيات على مرأى منها فزادت بعدا ..
فلجأ الى الحل الأخير .. خطبة غيرها .. لكنها ابتعدت اكثر ..
كان يعلم انها اجمل فتيات العائلة و ربما الأجمل في المدينة كلها .. لكنه العناد .. و هي لم تفعل مثله لحسن الحظ .. لم تربط نفسها بمن لا تريد لمجرد اغاظة الطرف الآخر .. نعم .. هي تود الانتقام لكن دون ان تحرق نفسها .. دون أن ينالها ما حذر منه المثل الصيني القائل " اذا اردت الإنتقام فاحفر قبرين معا ".. تريد قبرا واحد فقط لا يحمل شاهدة اسمها و لا يضم ترابه جسمها .. فكرة غير كاملة تتكون .. لكنها بحاجة الى وقت لصقلها .. و نظرت الى الفرقة التي تعزف لحنا فلكلوريا جميلا اهتز له قلبها فراحت تتفاعل معه بحركات بسيطة انسيابية نصف وقورة فلم تكن ميسون من المندفعات وراء كل نسمة هواء ..
لكن لها حسا مرهفا و نفسا ذواقة و الادهى انها و حتى و هي مستمتعة بالموسيقى الرائعة كانت تكون في ذهنها خطة شيطانية للنيل من منير .. ستجعله يدمر نفسه بنفسه في حين تنظر هي اليه من بعيد .. و تشمت .. فقط تشمت .. كانت الخطوة الأولى تتطلب بعض التضحية .. و نظرت بطرف عينها الى احد الراقصين في الحفل و هي تحمل كأس شراب التوت .. كانت حركاته الرشيقة توحي لها بالكثير .. و سألت نفسها : ما هي اهم صفات الجمل؟ هناك صفتان .. شدة الصبر و عنف الانتقام . . و نهضت ميسون لتبدأ بتنفيذ خطتها .
كان الحفل صاخبا و الجموع تختلط ببعضها بشكل شبه عشوائي و هو أمر طبيعي في حفلات الخطوبة و الأعراس ..
و سارت ميسون بشكل هادئ صوب المحتفلين حاملة كأس شراب التوت الأحمر .. و تألقت بعينيها تلك النظرة العابثة الشيطانية التي اشتهرت بها اذا ما كانت تريد شرا بأحد و لحسن حظها لم يلحظها احد ممن حولها ..
و ما ان مرت بجانب ذلك المسكين الذي اختارته ضحية لها حتى حدث ما توقعته .. فمع الحركة السريعة للمحتفلين ارتطمت يده بكأس الشراب فطار و انسكب على ثلاثة محتفلين هي احدهم .. و سال شراب التوت على فستانها كما لو انه نزف دماء غزير ..
و بقيت هي صامتة واقفة في حين كان الارتباك هائلا لذلك المسكين الذي راح يعتذر بشدة و هي صامتة تنظر اليه نظرة خاوية اربكته اكثر .. و لا احد يلومه ..
ماذا لو انك اتلفت فستان سهرة لفتاة شديدة الجمال و وقفت هي تنظر اليك بعينيها الساحرتين نظرة لا تعرف لها اسما .. غضب؟ ملامة؟ دهشة؟ سخرية؟ تساؤل ؟ حيرة؟ استغرب؟ شفقة ؟ استطلاع؟..
لا تدري ..
و هذا ما حصل مع المسكين و مما زاد ارتباكه انها تابعت سيرها و كأن امرا لم يحدث و اختفت وراء حاجز الديكور التابع للقاعة .. و بدأ الارتباك الحاصل يتلاشى تدريجيا و بسرعة عادت الحفلة لمجراها .. كانت تدرك مدى تحفز حاتم و دهشته و هو يشاهد ما يجري ..
اما منيرة فقد ظنت ان ميسون ستحاول احداث ضجة تفسد الحفل .. لكن امرا من هذا لم يحدث .. دقائق قليلة مرت لتعود ميسون بنفس الخطوات الهادئة الى طاولتها و قد اختفت البقعة من على فستانها بشكل مدهش .. هذه البقع عادة لا تزول بسهولة حتى مع الغسيل المكثف .. لكن ميسون لم تعلق و لم تجب على أي سؤال بل جلست في مكانها الأول و صبت لنفسها كأسا آخر راحت تتأمله دون أن تشرب منه قطرة ..
و في حقيقة الأمر كانت تراقب عبر انعكاساته ضحيتها الأولى في رحلة الثأر و تراقب بزاوية اخرى هدفها .. حاتم و منيرة ..
ضحيتها الاولى اسمه سعيد .. طالب في كلية التجارة .. اعزب هادئ الطباع مؤدب جدا .. هدف مناسب كطلقة اولى في صدر حاتم ..
من اهم صفات الطلقة ان تكون صماء عمياء خرساء لا تفكر و الا فهي لا تصلح طلقة تذهب حيث يريد لها مرسلها .. سعيد يصلح بقليل من التحوير و التحويل ليكون نوعا من الطلقات النسائية الصنع .. لقد وصفها والدها يوما بذات بالقلب الماسي ..
و من يومها يعلمون هذا عنها .. ذات القلب الماسي الرائع ..
و ابتسمت و خاطرة تمر سريعة اما ناظريها .. ماسي ؟ لا بأس ..
و انتهت الوصلة الموسيقية و تقدم سعيد من ميسون و هو مرتبك و قدم لها اعتذارا مفكك الكلمات ..
كان من اكثر الشباب خجلا و ترددا تجاه الفتيات .. و لم ترد ميسون بل نظرت في عينيه تلك النظرة الخاوية المحيرة و هو يتحدث مما اضاع عليه حديثه و جعله قمة في الحيرة و الارتباك و تولى والدها الرد بكلمات مهذبة على الشاب الذي ابتعد متعثر الخطوات و العرق يسيل و يغرق وجهه رغم اعتدال الجو .. و سألها والدها : ما الأمر يا ميسون ؟
قالت ببساطة طفولية : لا ادري .. ماذا يريد سعيد ؟ لم افهم منه شيئا .
قال والدها : معقول ؟ لقد جاء يعتذر عن اتلاف فستانك؟
قالت و هي تتفقد فستانها بحركة مسرحية : اتلفه ؟ كيف و متى؟ ها هو جميل انيق نظيف .
نظر اليها والدها بشك لكنها رسمت البراءة فوق وجهها فهز رأسة بيأس و لم يحاول مرة اخرى تحري الأمر .. اما هي فقد تابعت عن طريق انعكاس الظل حركات سعيد المرتبكة و هو يمسح عرقه تارة و ينظر نحو طاولة الأسرة تارة اخرى مع بداية فقرة جديدة من العزف الموسيقي ..
و لا يلومه احد بذها .. لقد انسكب الشراب على الفستان و لوثه فكيف زال هكذا فجأة ؟ و ما يربكه فعلا هو تلك النظرة الحجرية في عيون ميسون القاتلة .. لو كانت نظرة غضب او سخط او ملامة لوجد لنفسه ركيزة ليتصرف ..
و في الطرف الآخر كان حاتم و منيرة فقد كان حاتم مندهشا فعلا .. لقد رأى بنفسه الشراب يلوث ثوب ميسون و ظن انها ستغادر الحفل ساخطة او تفرغ غضبها بسعيد .. و ادهشته اكثر تلك النظرة و ذاك الهدوء الغامض لها ثم اذهله اختفاء البقعة عن الثوب .. كيف ؟ لا يدري ..
و تابعت ميسون حركة المحتفلين بنظرات اعجاب و في مرحلة من حركة رأسها التقت عيناه بعيني حاتم فحافظت على ابتسامتها متألقة و بالمصادفة انعكس الضوء على عينيها فبدت في نظر الأخير كأميرات الأساطير بجمالها ..
و شعر برجفة باردة لدى التقاء عيناهما و لكنها تابعت نظرها نحو المحتفلين مبتعدة بعينيها عنه .. و في ثنايا عقله تردد بيت الشعر القائل :
ويلاه ان هي اقبلت و ان اعرضت وقع السهام أو نزعهن اليم
أي شيطان جعله يترك هذه الفاتنة ليلحق بفتاة اخرى؟ ..أي تهور و أي غفلة ؟.. لا يدري .. منيرة جميلة ايضا .. لكن لا فتاة بجمال ميسون .. هي جميلة .. لكن كرامته جعلته يتركها .. و تسائل .. كرامته ام عناده .؟لم تكن تدرك حقيقة ما يعتمل في نفس حاتم الذي صار مشتتا بينها و بين خطيبته منيرة ..
لكن ميسون كانت تدرك جيدا ما تفعل ..
ستكون اللمسة الأخيرة عندما يغادر الضيوف و يبقى المقربون من العريس وفق التقاليد العائلية المتبعة ..
يا للشيطان ..
من اين اتتها كل تلك الخطط الجهنمية ؟
لا تدري .. ربما هي رغبتها العنيفة في الانتقام ..
ربما .. المهم انها ستحقق ما تريد و ليكن ما يكون ..
و ابتسمت للعروس ابتسامة صافية دون ان تطيل النظر اليها ..
ستكون منيرة ضحية لا ذنب لها في هذا الأمر .. لكن ما باليد حيلة .. و لم تقم ميسون بأي شيء حتى بدأ المدعوون يغادرون و وقفت تودعهم مع المودعين .. و جاء دور سعيد للمغادرة فقال لها و هو يصافحها مودعا : اكرر اعتذاري لك يا ميسون .. لم اكن اقصد .
قالت له بهدوء و بصوتها الرقيق : لا بأس .. لم يحدث ما يسيء . قال :اعتقد انك .. و قطع عبارته و هو ينظر الى مكان البقعة التي لم يعد لها وجود فقالت ميسون بسرعة : لا تشغل بالك بالأمر .. و ابتسمت له ابتسامة رقيقة اذهلته عن مسألة البقعة الغائبة حتى انه شد على يدها بطريقة لا شعورية و هو يحدق في عينيها الصافيتان
و من ذا الذي يلومه ؟
و هل يمكن لشاب متزوجا كان او اعزب ان يصمد امام نظرة ميسون ؟
و ابتسمت ميسون مرة اخرى و هي تسحب يدها من يده برفق .. فعاد يلقى بعبارات اعتذار مبعثرة قبل ان ينسحب متعثرا ..
وهناك كان حاتم يراقب الموقف بمشاعر مرتبكة .. لم يكن يعرف ما يقوله الاثنان حيث ان وجه ميسون باتجاهه كونها مع المودعين في حين كان ظهر سعيد نحوه كونه مغادرا و من زاوية النظر كان يري ابتسامة ميسون و يرى كيف شد سعيد على يدها .. و هذا ما رمت اليه ميسون ..
لقد اصاب سهمها هدفه و الطريدة تغرق بدوامة سوداء جعلت العرق يسيل على جبهتها .. كان حاتم مرتبكا من حقيقة مشاعره ..
هل عندما رأى ان ميسون طارت من بين يديه فعلا عاوده حبها و غيرته ام انه كان يريد ان تتعذب دون ان تجد من يهتم بها؟ لا يدري .. لكنه يدري انه لن يقف ساكنا ..ابدا ..
و بقي في نهاية الحفل اقارب العروس و العريس .. حيث عادة يتخذ الحفل طابع الخصوصية و يكون اكثر حرية من البداية حيث الغرباء عن العائلة ..
كانت الساعة نحو العاشرة و حفل كهذا يستمر عادة حتى الثالثة صباحا او حتى اليوم التالي بأغلب الأحيان .. كانت ميسون تعرف ان انتقامها قاب قوسين او ادنى ..
مسكينة منيرة ..
لا ذنب لها لكي تشارك حازم مصيره الأسود ..
لكن .. لا مجال للتراجع و ستجد منيرة عريسا جديدا لها بلا شك .. و انطلقت ميسون ترقص بجنون على انغام الموسيقى الصاخبة كما لو انها ساحرة تضع اللمسات الأخيرة على تعويذة شيطانية و العجيب ان جمالها تألق بشدة وسط الحفل و الأضواء بشكل مبهر و كانت الدنيا تدور من حولها بسرعة دون ان تشعر بأنها فقدت التوازن ..
كل الصبايا من حولها كن يتحركن بحركات متناسقة و الشبان يرقصون بنفس الحماس و هي تنتقل هنا و هناك ..
كانت التقاليد ان ينزل العريس و يراقص العروس في ساحة الحفلة .. كان حازم منبهرا بلا جدال بميسون و قد استيقظ في قلبه الحب القديم .. و راح يراقص منيرة و عيناه لا تكادان تفارقان ميسون التي تكاد تطير من خفة حركاتها و شعرها الذهبي القصير يرسم من حول وجهها الجميل الأبيض حقلا قمح متألق و عيناها الخضراوان تعكسان الأضواء بتألق مدهش ..
عشر دقائق كانت قبل منتصف الليل عندما كانت ميسون تبدأ رقصتها السريعة المبهرة و التي شدت انظار الكل و خاصة حازم الذي طالما انبهر بتلك المرونة التي تتحرك بها ميسون في تلك الرقصة و التي تتفرد بها بليونة كاملة و كأنها من مطاط و ليس من لحم و ددمم ..
و فاض الكيل بمنيرة فتوقفت فجأة و صرخت بقوة : كفى .
توقف الكل دفعة واحدة مع صرختها ..
فصاحت من بين دموعها : اذا كنت لا تزال تحبها لماذا لا تذهب اليها ؟
ارتبك حازم و نظر الى ميسون التي وقفت هادئة تراقب الموقف و حالا توجهت الانظار نحوها لكنها لم تغير من هدوء منظرها كأنها تشاهد امرا في بلد آخر لا يعنيها .
و عادت منيرة تصرخ و هي تدفع حازم و تبكي بشدة : هيا .. اذهب اليها ايها النذل و لا تعد الي ابدا .. انا اكرهك .. اقسم اني اكرهك . و استدارت و انطلقت نحو امها و هي تغطي وجهها بكفيها و قد تبلل قفازا فستان العرس بدموعها ..
و حاول حازم الكلام لكن جفاف حلقه منعه من ان يتحدث الا بكلمة : ماذا ..؟ و نظر نحو ميسون التي استدارت و سارت بهدوء خارجة من القاعة وسط هدوء شامل عدا عن نشيج منيرة .. و حاول الاقتراب من منيرة لكنها تحولت اليه صارخة بصوت هادر : قلت لك اغرب عن وجهي .. اكرهك ..هيا اغرب و الحق بها قبل ان تبتعد.
و صعد الدم الى رأس حازم فانطلق يركض نحو باب القاعة و هو لا يكاد يرى امامه .. و شاهدها تسير على الرصيف المقابل و تلتفت نحوه ثم تختفي في الناصية المقابلة .. فاندفع بلا وعي ورائها .. و عندما دقت الساعة منتصف الليل دوت صرخة رهيبة صدمت آذان الكل مع صرير عجلات السيارة المسرعة التي ضربت حازم ..
و عندما وصلوا اليه كان ممددا على الأرض ينزف بشدة و قد تحطم عموده الفقري و ساقاه و ذراعة الأيسر و الدم يسيل من فمه و انفه بغزارة ..
لحظات و خرجت ميسون من القاعة ترتدي فستانها و قد ظهرت بقايا آثار البقعة عليه و ركضت باتجاه الحشد بهلع ..
و سألها ابوها بذهول : الم تخرجي قبل قليل؟ .. و كيف ظهرت هذه البقعة ؟ .. اين كنت ؟صاحت : و هل هذا وقته ؟ .. كنت في الحمام اغسل هذه البقعة اللعينة و امضيت ساعتين و نصف حتى كدت انظفها قبل ان اسمع الصوت . . هل تعتقد ان لدي فستانا آخر غيره ؟ انت نفسك من قام بتفصيله في باريس قبل شهرين .
و اندفعت تشق الحشد حتى وصلت الى حازم و نظرت بهلع الى دمه النازف قبل ان تهتف باسمه بلوعة .. و فتح الأخير عينيه و نظر اليها و هي تحدق به بجزع و توقفت عيناه على آثار البقعة الظاهرة لحظة قبل ان يغمض عينيه ..
و اثناء نقل حازم المشلول الى المستشفى بعد ان فر الجاني كان الكل يتساءل في سره ..اذا كانت هذه ميسون فمن هي الأخرى؟ و من اين لها بفستان يشبه فستانها الذي امضى الخياط ثلاثة اسابيع لكي يتمه ؟ و كيف عادت ميسون الى القاعة و قد توارت في المنعطف البعيد كما شاهد الكل ؟ لا احد يدري ، لكن ما لم يلاحظه احد هو ابتسامة ساخرة خفيفة رفت لجزء من الثانية على شفتي ميسون .. لقد نسوا ان فستانها ذو نظام مزدوج و يمكن ازالة او اضافة قطع اليه و ربطها بسوستات دقيقة و ابدال قطع مكان اخرى .. و هذا سر ارتفاع ثمنه .. و نسوا أن للقاعة باب خلفي .. اما ميسون فقد كانت تفكر بأمر آخر ..
ستطيل شعرها كما كانت تفعل قبل ان تعرف حازم .. و ستعود لتحلم بليالي الصيف الغريبة و تكتب بدفترها الاشعار ..
و تسهر طويلا و تطارد الفراشات في الحقول ..
و اغمضت عينيها بارتياح ..
لقد اتمت انتقامها المدمر ..
قالوا أنها ذات القلب الماسي الجميل ..
صدقوا ..
لكنهم نسوا ان الماس هو اصلب المعادن .